فصل: تفسير الآيات رقم (1- 98)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 98‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

تبدأ هذه السورة وتختم خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ببيان وظيفته وحدود تكاليفه‏.‏‏.‏ إنها ليست شقوة كتبت عليه، وليست عناء يعذب به‏.‏ إنما هي الدعوة والتذكرة، وهي التبشير والإنذار‏.‏ وأمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها‏.‏ الذي تعنوا له الجباه، ويرجع إليه الناس‏:‏ طائعهم وعاصيهم‏.‏‏.‏ فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر؛ ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون‏.‏

وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر، مفصلة مطولة؛ وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى وموقف الجدل بين موسى وفرعون‏.‏ وموقف المباراة بين موسى والسحرة‏.‏‏.‏ وتتجلى في غضون القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه، وقال له ولأخيه‏:‏ ‏{‏لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏}‏‏.‏‏.‏

وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته، وهدايته له‏.‏ وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والأنذار‏.‏

وتحيط بالقصة مشاهد القيامة‏.‏ وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم‏.‏ حيث يعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار‏.‏ تصديقاً لما قيل لأبيهم آدم، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان‏!‏

ومن ثم يمضي السياق في هذه السورة في شوطين اثنين‏:‏ الشوط الأول يتضمن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏.‏ إلا تذكرة لمن يخشى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ تتبعه قصة موسى نموذجاً كاملاً لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته‏.‏

والشوط الثاني يتضمن مشاهد القيامة وقصة آدم وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة وقصة موسى‏.‏ ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها ويتناسق معه ومع جو السورة‏.‏

وللسورة ظل خاص يغمر جوها كله‏.‏‏.‏ ظل علوي جليل، تخشع له القلوب، وتسكن له النفوس، وتعنو له الجباه‏.‏‏.‏ إنه الظل الذي يخلعه تجلي الرحمن على الوادي المقدس على عبده موسى، في تلك المناجاة الطويلة؛ والليل ساكن وموسى وحيد، والوجود كله يتجاوب بذلك النجاء الطويل‏.‏‏.‏ وهو الظل الذي يخلعه تجلي القيوم في موقف الحشر العظيم‏:‏ ‏{‏وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً‏}‏ ‏{‏وعنت الوجوه للحي القيوم‏}‏ والإيقاع الموسيقي للسورة كلها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها رخياً شجياً ندياً بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في القافية كلها تقريباً‏.‏

‏{‏طه‏.‏ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏.‏ إلا تذكرة لمن يخشى‏.‏

تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى‏.‏ الرحمن على العرش استوى‏.‏ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏.‏ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى‏.‏ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏

مطلع رخي ندي‏.‏ يبدأ بالحروف المقطعة‏:‏ ‏{‏طا‏.‏ ها‏}‏ للتنبيه إلى أن هذه السورة‏.‏ كهذا القرآن مؤلفة من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور‏.‏ ويختار هنا حرفان ينتهيان بإيقاع كإيقاع السورة، ويقصران ولا يمدان لتنسيق الإيقاع كذلك‏.‏

يتلو هذين الحرفين حديث عن القرآن كما هو الحال في السور التي تبدأ بالحروف المقطعة في صورة خطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏‏.‏‏.‏ ما أنزلنا عليك القرآن ليؤدي إلى شقائك به أو بسببه‏.‏ ما أنزلناه لتشقى بتلاوته والتعبد به حتى يجاوز ذلك طاقتك، ويشق عليك؛ فهو ميسر للذكر، لا تتجاوز تكاليفه طاقة البشر، ولا يكلفك إلا ما في وسعك، ولا يفرض عليك إلا ما في طوقك والتعبد به في حدود الطاقة نعمة لا شقوة، وفرصة للاتصال بالملأ الأعلى، واستمداد القوة والطمأنينة، والشعور بالرضى والأنس والوصول‏.‏‏.‏

وما أنزلناه عليك لتشقى مع الناس حين لا يؤمنون به‏.‏ فلست مكلفاً أن تحملهم على الإيمان حملاً؛ ولا أن تذهب نفسك عليهم حسرات؛ وما كان هذا القرآن إلا للتذكير والإنذار‏:‏

‏{‏إلا تذكرة لمن يخشى‏}‏‏.‏

والذي يخشى يتذكر حين يُذكر، ويتقي ربه فيستغفر‏.‏ وعند هذا تنتهي وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم- فلا يكلف فتح مغاليق القلوب، والسيطرة على الأفئدة والنفوس‏.‏ إنما ذلك إلى الله الذي أنزل هذا القرآن‏.‏ وهو المهيمن على الكون كله، المحيط بخفايا القلوب والأسرار‏:‏

‏{‏تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى‏.‏ الرحمن على العرش استوى‏.‏ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏}‏‏.‏‏.‏

فالذي نزل هذا القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات‏.‏‏.‏ السماوات العلى‏.‏‏.‏ فالقرآن ظاهرة كونية كالأرض والسماوات‏.‏ تنزلت من الملأ الأعلى‏.‏ ويربط السياق بين النواميس التي تحكم الكون والتي ينزل بها القرآن؛ كما ينسق ظل السماوات العلى مع الأرض، وظل القرآن الذي ينزل من الملأ الأعلى إلى الأرض‏.‏‏.‏

والذي نزل القرآن من الملأ الأعلى، وخلق الأرض والسماوات العلى، هو ‏{‏الرحمن‏}‏ فما نزله على عبده ليشقى‏.‏ وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام بهذا المعنى‏.‏ وهو المهيمن على الكون كله‏.‏ ‏{‏على العرش استوى‏}‏ والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء‏.‏ فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى‏.‏

ومع الهيمنة والاستعلاء الملك والإحاطة‏:‏

‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏}‏‏.‏

والمشاهد الكونية تستخدم في التعبير لإبراز معنى الملك والإحاطة في صورة يدركها التصور البشري‏.‏ والأمر اكبر من ذلك جداً‏.‏ ولله ما في الوجود كله وهو أكبر مما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏.‏

وعلم الله يحيط بما يحيط به ملكه‏:‏

‏{‏وأن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى‏}‏‏.‏‏.‏

وينسق التعبير بين الظل الذي تلقيه الآية‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏}‏‏.‏ والظل الذي تلقيه الآية بعدها‏:‏ ‏{‏وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى‏}‏ ينسق بين الظاهر الجاهر في الكون، والظاهر الجاهر من القول‏.‏ وبين المستور المخبوء تحت الثرى والمستور المخبوء في الصدور‏:‏ السر وأخفى‏.‏ على طريقة التنسيق في التصوير‏.‏ والسر خاف‏.‏ وما هو أخفى من السر تصوير لدرجات الخفاء والاستتار‏.‏ كما هو الحال تحت أطباق الثرى‏.‏‏.‏

والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لطمأنة قلبه بأن ربه معه يسمعه، ولا يتركه وحده يشقى بهذا القرآن، ويواجه الكافرين بلا سند، فإذا كان يدعوه جهراً فإنه يعلم السر وأخفى‏.‏ والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسره ونجواه، يطمئن ويرضى؛ ويأنس بهذا القرب فلا يستوحش من العزلة بين المكذبين المناوئين؛ ولا يشعر بالغربة بين المخالفين له في العقيدة والشعور‏.‏

ويختم هذا المطلع بإعلان وحدانية الله بعد إعلان هيمنته وملكيته وعلمه‏:‏

‏{‏الله لا إله إلا هو‏.‏ له الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏‏.‏

و ‏{‏الحسنى‏}‏ تشارك في تنسيق الإيقاع، كما تشارك في تنسيق الظلال‏.‏ ظلال الرحمة والقرب والرعاية، التي تغمر جو هذا المطلع وجو السورة كله‏.‏

ثم يقص الله على رسوله حديث موسى، نموذجاً لرعايته للمختارين لحمل دعوته‏:‏ وقصة موسى هي أكثر قصص المرسلين وروداً في القرآن‏.‏ وهي تعرض في حلقات تناسب موضوع السورة التي تعرض فيها وجوها وظلها‏.‏ وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة‏.‏ وسورة المائدة‏.‏ وسورة الأعراف‏.‏ وسورة يونس‏.‏ وسورة الإسراء‏.‏ وسورة الكهف‏.‏‏.‏ وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى‏.‏

وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة‏:‏ حلقة وقوف بني إسرائيل أمام الأرض المقدسة لا يدخلون لأن فيها قوماً جبارين‏.‏ وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة‏:‏ حلقة لقاء موسى للعبد الصالح وصحبته فترة‏.‏‏.‏

فأما في البقرة والأعراف ويونس وفي هذه السورة طه فقد وردت منها حلقات كثيرة‏.‏ ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى‏.‏ تختلف الحلقات المعروضة، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه تنسيقاً له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها‏.‏

في البقرة سبقتها قصة آدم وتكريمه في الملأ الأعلى، وعهد الله إليه بخلافة الأرض ونعمته عليه بعد ما غفر له‏.‏‏.‏ فجاءت قصة موسى وبني إسرائيل تذكيراً لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه‏.‏

واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم وإطعامهم المن والسلوى، وذكرت مواعدة موسى وعبادتهم للعجل من بعده، ثم غفرانه لهم‏.‏ وعهده إليهم تحت الجبل‏.‏ ثم عدوانهم في السبت‏.‏ وقصة البقرة‏.‏

وفي الأعراف سبقها الإنذار وعواقب المكذبين بالآيات قبل موسى عليه السلام فجاءت قصة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم‏.‏ وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل‏.‏ وخاتمة فرعون وملئه المكذبين‏.‏ ثم ما كان من بني إسرائيل بعد ذلك من اتخاذ العجل في غيبة موسى‏.‏ وتنتهي القصة بإعلان فيها وراثة رحمة الله وهداه للذين يتبعون الرسول النبي الأمي‏.‏

وفي يونس سبقها عرض مصارع المكذبين‏.‏ فجاءت قصة موسى من حلقة الرسالة، وعرض مشهد السحرة، ومصرع فرعون وقومه بالتفصيل‏.‏

أما هنا في طه‏.‏ فقد سبقها مطلع السورة يشف عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته‏.‏ فجاءت القصة مظللة بهذا الظل تبدأ بمشهد المناجاة؛ وتضمن نماذج من رعاية الله لموسى عليه السلام وتثبيته وتأييده؛ وتشير إلى سبق هذه الرعاية للرسالة، فقد كانت ترافقه في طفولته، فتحرسه وتتعهده‏:‏ ‏{‏وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني‏}‏‏.‏‏.‏

فلنأخذ في تتبع حلقات القصة كما وردت في السياق‏.‏

‏{‏وهل أتاك حديث موسى‏.‏ إذ رأى نارا فقال لأهله‏:‏ امكثوا إني آنست ناراً، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار هدى‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وهل أتاك حديث موسى‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ وما يتجلى فيه من رعاية الله وهداه لمن اصطفاه‏؟‏‏.‏‏.‏

فها هو ذا موسى عليه السلام في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل ان يخدمه ثماني سنوات أو عشراً‏.‏ والأرجح انه وفىَّ عشرا؛ ثم خطر له أن يفارق شعيباً وأن يستقل بنفسه وبزوجه، ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره‏.‏

لماذا عاد‏.‏ وقد خرج من مصر طريداً‏.‏ قتل قبطياً فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي، وغادر مصر هارباً وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألواناً‏؟‏ حيث وجد الأمن والمطأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه‏؟‏

إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستاراً لما تهيئه لموسى من أدوار‏.‏‏.‏ وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك‏.‏ تحركنا أشواق وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال‏.‏‏.‏ وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار‏.‏ يد المدبر المهيمن العزيز القهار‏.‏‏.‏

وهكذا عاد موسى‏.‏

وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم‏.‏ ضل طريقه والليل مظلم، والمتاهة واسعة‏.‏ نعرف هذا من قوله لأهله‏:‏ ‏{‏امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى‏}‏‏.‏‏.‏ فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض، ليراها الساري في الصحراء، فتكشف له عن الطريق، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق‏.‏

ولقد رأى موسى النار في الفلاة‏.‏ فاستبشر‏.‏ وذهب ليأتي منها بقبس يستدفئ به أهله، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة‏.‏ أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق؛ أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق‏.‏

لقد ذهب يطلب قبساً من النار؛ ويطلب هادياً في السرى‏.‏‏.‏ ولكنه وجد المفاجأة الكبرى‏.‏ إنها النار التي تدفئ‏.‏ لا الأجسام ولكن الأرواح‏.‏ النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى‏:‏

‏{‏فلما أتاها نودي‏:‏ يا موسى إني أنا ربك‏.‏ فاخلع نعليك‏.‏ إنك بالواد المقدس طوى‏.‏ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى‏.‏ إنني أنا الله لا إله إلا أنا، فاعبدني وأقم الصلاة لذكري‏.‏ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى‏.‏ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى‏}‏‏.‏‏.‏

إن القلب ليجفُ، وإن الكيان ليرتجف‏.‏ وهو يتصور مجرد تصور ذلك المشهد‏.‏‏.‏ موسى فريد في تلك الفلاة‏.‏ والليل دامس، والظلام شامل، والصمت مخيم‏.‏ وهو ذاهب يلتمس النار التي آنسها من جانب الطور‏.‏ ثم إذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء‏:‏ ‏{‏إني أنا ربك فاخلع نعليك‏.‏ إنك بالوادِ المقدس طوى وأنا اخترتك‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

إن تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الأبصار‏.‏ الجلال الذي تتضاءل في ظله الأرض والسماوات‏.‏ ويتلقى‏.‏ يتلقى ذلك النداء العلوي بالكيان البشري‏.‏‏.‏ فكيف‏؟‏ كيف لولا لطف الله‏؟‏

إنها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى عليه السلام فبحسب الكيان البشري أن يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة‏.‏ وبحسب البشرية أن يكون فيها الاستعداد لمثل هذا الاتصال على نحو من الأنحاء‏.‏‏.‏ كيف‏؟‏ لا ندري كيف‏!‏ فالعقل البشري ليس هنا ليدرك ويحكم، إنما قصاراه أن يقف مبهوتاً يشهد ويؤمن‏!‏

‏{‏فلما أتاها نودي يا موسى‏:‏ إني أنا ربك‏.‏‏.‏‏}‏ نودي بهذا البناء للمجهول‏؟‏ فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا اتجاهه‏.‏ ولا تعيين صورته ولا كيفيته‏.‏ ولا كيف سمعه موسى أو تلقاه‏.‏‏.‏ نودي بطريقة ما فتلقى بطريقة ما‏.‏ فذلك من أمر الله الذي نؤمن بوقوعه، ولا نسأل عن كيفيته، لأن كيفيته وراء مدارك البشر وتصورات الإنسان‏.‏

‏{‏يا موسى إني انا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى‏}‏‏.‏‏.‏ إنك في الحضرة العلوية‏.‏ فتجرد بقدميك‏.‏ وفي الوادي الذي تتجلى عليه الطلعة المقدسة، فلا تطأه بنعليك‏.‏

‏{‏وأنا اخترتك‏}‏‏.‏‏.‏ فيا للتكريم‏!‏ يا للتكريم ان يكون الله بذاته هو الذي يختار‏.‏ يختار عبداً منِ العبيد هو فرد من جموع الجموع‏.‏‏.‏ تعيش على كوكب من الكواكب هو ذرة في مجموعة‏.‏ المجموعة هي ذرة في الكون الكبير الذي قال له الله‏:‏ كن‏.‏‏.‏ فكان‏!‏ ولكنها رعاية الرحمن لهذا الإنسان‏!‏

وبعد إعلانه بالتكريم والاختيار، والاستعداد والتهيؤ بخلع نعليه، ويجيء التنبيه للتلقي‏:‏

‏{‏فاستمع لما يوحى‏}‏‏.‏‏.‏

ويلخص ما يوحى في ثلاثة أمور مترابطة‏:‏ الاعتقاد بالوحدانية، والتوجه بالعبادة، والإيمان بالساعة؛ وهي أسس رسالة الله الواحدة‏:‏

‏{‏إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري‏.‏ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى‏.‏ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى‏}‏‏.‏‏.‏

فأما الألوهية الواحدة فهي قوام العقيدة‏.‏ والله في ندائه لموسى عليه السلام يؤكدها بكل المؤكدات‏:‏ بالإثبات المؤكد‏.‏ ‏{‏إنني أنا الله‏}‏ وبالقصر المستفاد من النفي والاستثناء‏:‏ ‏{‏لا إله إلا أنا‏}‏ الأولى لإثبات الألوهية لله، والثانية لنفيها عن سواه‏.‏‏.‏ وعلى الألوهية تترتب العبادة؛ والعبادة تشمل التوجه لله في كل نشاط الحياة؛ ولكنه يخص بالذكر منها الصلاة‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ لأن الصلاة أكمل صورة من صور العبادة، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر، لأنها تتمحض لهذه الغاية، وتتجرد من كل الملابسات الأخرى؛ وتتهيأ فيها النفس لهذا الغرض وحده، وتتجمع للاتصال بالله‏.‏

فأما الساعة فهي الوعد المرتقب للجزاء الكامل العادل، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه؛ وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق‏.‏‏.‏ والله سبحانه يؤكد مجيئها‏:‏ ‏{‏إن الساعة آتية‏}‏ وأنه يكاد يخفيها‏.‏ فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم‏.‏‏.‏ والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي، فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه‏.‏ ولو كان كل شيء مكشوفاً لهم وهم بهذه الفطرة لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم‏.‏ فوراء المجهول يجرون‏.‏ فيحذرون ويأملون، ويجربون ويتعلمون‏.‏ ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا‏.‏‏.‏ وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد، يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم‏.‏ ذلك لمن صحت فطرته واستقام‏.‏ فأما من فسدت فطرته واتبع هواه فيغفل ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى‏:‏

‏{‏فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك أن اتباع الهوى هو الذي ينشئ التكذيب بالساعة‏.‏ فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بأن الحياة الدنيا لا تبلغ فيها الإنسانية كمالها، ولا يتم فيها العدل تمامه؛ وأنه لا بد من حياة أخرى يتحقق فيها الكمال المقدر للإنسان، والعدل المطلق في الجزاء على الأعمال‏.‏

هذه هي الوهلة الأولى للنداء العلوي الذي تجاوبت به جنبات الوجود؛ وأنهى الله سبحانه إلى عبده المختار قواعد التوحيد‏.‏ ولا بد أن موسى قد نسي نفسه ونسي ما جاء من أجله، ليتبع ذلك الصوت العلوي الذي ناداه؛ وليسمع التوجيه القدسي الذي يتلقاه‏.‏ وبينما هو مستغرق فيما هو فيه، ليس في كيانه ذرة واحدة تتلفت إلى سواه، إذا هو يتلقى سؤالاً لا يحتاج منه إلى جواب‏:‏

‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

إنها عصاه‏.‏ ولكن أين هو من عصاه‏؟‏ إنما يتذكر فيجيب‏:‏

‏{‏قال‏:‏ هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى‏}‏‏.‏‏.‏

والسؤال لم يكن عن وظيفة العصا في يده‏.‏ إنما كان عما في يمينه‏.‏ ولكنه أدرك أن ليس عن ماهيتها يسأل، فهي واضحة، إنما عن وظيفتها معه‏.‏ فأجاب‏.‏‏.‏

ذلك أقصى ما يعرفه موسى عن تلك العصا‏:‏ أن يتوكأ عليها وأن يضرب بها أوراق الشجر لتتساقط فتأكلها الغنم وقد كان يرعى الغنم لشعيب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ساق معه في عودته قطيعاً منها كان من نصيبه‏.‏ وأن يستخدمها في أغراض أخرى من هذا القبيل أجملها ولم يعددها لأن ما ذكره نموذج منها‏.‏

ولكن ها هي ذي القدرة القادرة تصنع بتلك العصا في يده ما لم يخطر له على بال، تمهيداً لتكليفه بالمهمة الكبرى‏:‏

‏{‏قال‏:‏ ألقها يا موسى‏.‏ فألقاها‏.‏ فإذا هي حية تسعى‏.‏ قال‏:‏ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏‏:‏

ووقعت المعجزة الخارقة التي تقع في كل لحظة؛ ولكن الناس لا ينتبهون إليها‏.‏ وقعت معجزة الحياة‏.‏ فإذا العصا حية تسعى‏.‏ وكم من ملايين الذرات الميتة أو الجامدة كالعصا تتحول في كل لحظة إلى خلية حية؛ ولكنها لا تبهر الإنسان كما يبهره ان تتحول عصا موسى حية تسعى‏!‏ ذلك أن الإنسان أسير حواسه، وأسير تجاربه، فلا يبعد كثيراً في تصوراته عما تدركه حواسه‏.‏ وانقلاب العصا حية تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه لها بشدة‏.‏ أما الظواهر الخفية لمعجزة الحياة الأولى، ومعجزات الحياة التي تدب في كل لحظة فهي خفية قلما يلتفت إليها‏.‏ وبخاصة أن الألفة تفقدها جدتها في حسه، فيمر عليها غافلاً أو ناسياً‏.‏

وقعت المعجزة فدهش لها موسى وخاف‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏ ونردها عصا‏.‏

والسياق هنا لا يذكر ما ذكره في سورة أخرى من أنه ولى مدبراً ولم يعقب‏.‏ إنما يكتفي بالإشارة الخفيفة إلى ما نال موسى عليه السلام من خوف‏:‏ ذلك أن ظل هذه السورة ظل أمن وطمأنينة، فلا يشوبه بحركة الفزع والجري والتولي بعيدا‏.‏

واطمأن موسى والتقط الحية، فإذا هي تعود سيرتها الأولى‏!‏ عصا‏!‏‏.‏‏.‏ ووقعت المعجزة في صورتها الأخرى‏.‏ صورة سلب الحياة من الحي، فإذا هو جامد ميت، كما كان قبل أن تدركه المعجزة الأولى‏.‏‏.‏

وصدر الأمر العلوي مرة أخرى إلى عبده موسى‏:‏

‏{‏واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى‏}‏‏.‏‏.‏

ووضع موسى يده تحت إبطه‏.‏‏.‏ والسياق يختار للإبط والذراع صورة الجناح لما فيها من رفرفة وطلاقة وخفة في هذا الموقف المجنح الطليق من ربقة الأرض وثقلة الجسم لتخرج بيضاء لا عن مرض أو آفة‏.‏ ولكن‏:‏ ‏{‏آية أخرى‏}‏ مع آية العصا‏.‏ ‏{‏لنريك من آياتنا الكبرى‏}‏ فتشهد وقوعها بنفسك تحت بصرك وحسك‏.‏ فتطمئن للنهوض بالتبعة الكبرى‏:‏

‏{‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏‏.‏‏.‏

وإلى هنا لم يكن موسى يعلم انه منتدب لهذه المهمة الضخمة‏.‏‏.‏ وإنه ليعرف من هو فرعون‏:‏ فقد ربي في قصره‏.‏ وشهد طغيانه وجبروته‏.‏ وشاهد ما يصبه على قومه من عذاب ونكال‏.‏‏.‏ وهو اللحظة في حضرة ربه‏.‏ يحس الرضى والتكريم والحفاوة‏.‏ فليسأله كل ما يطمئنه على مواجهة هذه المهمة العسيرة؛ ويكفل له الاستقامة على طريق الرسالة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ رب اشرح لي صدري‏.‏ ويسر لي أمري‏.‏ واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‏.‏ واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي‏.‏ اشدد به أزري، وأشركه في أمري‏.‏ كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيرا‏.‏ إنك كنت بنا بصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره‏.‏‏.‏ وانشراح الصدر يحول مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة؛ ويجعله دافعاً للحياة لا عبئاً يثقل خطى الحياة‏.‏

وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره‏.‏‏.‏ وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح‏.‏ وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير‏؟‏ ماذا يملك وقواه محدودة وعلمه قاصر والطريق طويل وشائك ومجهول‏؟‏‏!‏‏.‏

وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله‏.‏‏.‏ وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة والأرجح أن هذا هو الذي عناه‏.‏ ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله‏:‏ ‏{‏وأخي هارون هو أفصح مني لساناً‏}‏‏.‏ وقد دعا ربه في أول الأمر دعاء شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر‏.‏ ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه‏.‏

وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله‏.‏ هارون أخيه‏.‏ فهو يعلم عنه فصاحة اللسان وثبات الجنان وهدوء الأعصاب، وكان موسى عليه السلام انفعالياً حاد الطبع سريع الانفعال‏.‏ فطلب إلى ربه أن يعينه بأخيه يشد أزره ويقويه ويتروى معه في الأمر الجليل الذي هو مقدم عليه‏.‏

والأمر الجليل الذي هو مقدم عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير والاتصال الكثير‏.‏ فموسى عليه السلام يطلب أن يشرح الله صدره وييسر له أمره ويحل عقدة من لسانه ويعينه بوزير من أهله‏.‏

‏.‏ كل أولئك لا ليواجه المهمة مباشرة؛ ولكن ليتخذ ذلك كله مساعداً له ولأخيه على التسبيح الكثير والذكر الكثير والتلقي الكثير من السميع البصير‏.‏‏.‏ ‏{‏إنك كنت بنا بصيراً‏}‏‏.‏‏.‏ تعرف حالنا وتطلع على ضعفنا وقصورنا وتعلم حاجتنا إلى العون والتدبير‏.‏‏.‏

لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير‏.‏ وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه‏.‏ فها هو ذا الكريم المنان لا يخجل ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطئ عليه بالإجابة الكاملة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ قد أوتيت سؤلك يا موسى‏}‏‏:‏

هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة‏.‏ فيها إجمال يغني عن التفصيل‏.‏ وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل‏.‏‏.‏ كل ما سألته أعطيته‏.‏ أعطيته فعلاً‏.‏ لا تعطاه ولا ستعطاه‏؟‏ وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه‏:‏ ‏{‏يا موسى‏}‏ وأي تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد‏؟‏

وإلى هنا كفاية وفضل من التكريم والعطف والإيناس‏.‏ وقد طال التجلي؛ وطال النجاء؛ وأجيب السؤل وقضيت الحاجة‏.‏‏.‏ ولكن فضل الله لا خازن له، ورحمة الله لا ممسك لها‏.‏ فهو يغمر عبده بمزيد من فضله وفيض من رضاه، فيستبقيه في حضرته، ويمد في نجائه وهو يذكره بسابق نعمته، ليزيده اطمئناناً وأنساً بموصول رحمته وقديم رعايته‏.‏ وكل لحظة تمر وهو في هذا المقام الوضيء هي متاع ونعمى وزاد ورصيد‏.‏

‏{‏ولقد مننا عليك مرة أخرى‏.‏ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى‏.‏ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم‏.‏ فليلقه اليم بالساحل، يأخذه عدو لي وعدو له‏.‏ وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني‏.‏ إذ تمشي أختك فتقول‏:‏ هل أدلكم على من يكفله‏؟‏ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن‏.‏ وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتونا، فلبثت سنين في أهل مدين‏.‏ ثم جئت على قدر يا موسى‏.‏ واصطنعتك لنفسي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

إن موسى عليه السلام ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار‏.‏ إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان‏.‏ إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر؛ ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص‏.‏ فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلاً من التهيؤ والاستعداد‏.‏ وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد‏.‏ وأنه صنع على عين الله منذ زمان، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع‏.‏ ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف‏.‏ وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون، لأن يد القدرة كانت تسنده، وعين القدرة كانت ترعاه‏.‏

في كل خطاه‏.‏ فلا عليه اليوم من فرعون، وقد بلغ أشده‏.‏ وربه معه‏.‏ قد اصطنعه لنفسه، واستخلصه واصطفاه‏.‏

‏{‏ولقد مننا عليك مرة أخرى‏}‏‏.‏‏.‏ فالمنة قديمة ممتدة مطردة، سائرة في طريقها معك منذ زمان‏.‏ فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن‏.‏

لقد مننا عليك إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، وألهمناها ما يلهم في مثل حالها‏.‏‏.‏ ذلك الإلهام‏:‏

‏{‏أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل‏}‏‏.‏‏.‏

حركات كلها عنف وكلها خشونة‏.‏‏.‏ قذف في التابوت بالطفل‏.‏ وقذف في اليم بالتابوت‏.‏ وإلقاء للتابوت على الساحل‏.‏‏.‏ ثم ماذا‏؟‏ أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل‏.‏ من يتسلمه‏؟‏ ‏{‏عدو لي وعدو له‏}‏‏.‏

وفي زحمة هذه المخاوف كلها‏.‏ وبعد تلك الصدمات كلها‏.‏ ماذا‏؟‏ ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة‏؟‏ ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية‏؟‏

‏{‏وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني‏}‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعاً تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج‏.‏ وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء؛ ولو كان طفلاً رضيعاً لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول‏.‏‏.‏

إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد‏.‏ مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف‏.‏‏.‏ والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال‏:‏ ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏‏.‏‏.‏ وما من شرح يمكن ان يضيف شيئاً إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب‏:‏ ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ وكيف يصف لسان بشري، خلقاً يصنع على عين الله‏؟‏ إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه‏.‏‏.‏ إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية‏.‏ فكيف بمن يصنع صنعاً على عين الله‏؟‏ إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه‏.‏

ولتصنع على عيني‏.‏ تحت عين فرعون عدوك وعدوي وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع‏.‏ ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني القيت عليك محبة مني‏.‏ ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني‏.‏

ولم أحطك في قصر فرعون، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف‏.‏ بل جمعتك بها وجمعتها بك‏:‏

‏{‏إذ تمشي أختك فتقول‏:‏ هل أدلكم على من يكفله‏؟‏ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن‏}‏‏.‏‏.‏

وكان ذلك من تدبير الله‏.‏ إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات‏.‏ وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر يبحثان له عن موضع‏.‏

فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم‏:‏ هل أدلكم على من يكفله‏؟‏ وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها‏.‏ وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت، وقذفت بالتابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل‏.‏ ليأخذه عدو لله وله، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل‏.‏ بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين‏!‏

ومنة أخرى‏:‏ ‏{‏وقتلت نفسا فنجيناك من الغم، وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى‏.‏ واصطنعتك لنفسي‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون، ثم نزل المدينة يوماً فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعاً‏.‏ ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه‏.‏ فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه‏.‏‏.‏ فربه يذكره هنا بنعمته عليه، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم‏.‏ ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص‏؟‏ وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض، وأكثرهم ترفاً ومتاعاً وزينة‏.‏‏.‏

وفي الوقت المقدر‏.‏ عندما نضج واستعد، وابتلي فثبت وصبر؛ وامتحن فجاز الامتحان‏.‏ وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه‏.‏‏.‏

في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين، وهو يظن أنه هو جاء‏:‏ ‏{‏فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى‏}‏‏.‏

جئت في الوقت الذي قدرته لمجيئك‏.‏‏.‏ ‏{‏واصطنعتك لنفسي‏}‏ خالصاً مستخلصاً ممحضاً لي ولرسالتي ودعوتي‏.‏‏.‏ ليس بك شيء من هذه الدنيا ولا لهذه الدنيا‏.‏ إنما أنت للمهمة التي صنعتك على عيني لها واصطنعتك لتؤديها‏.‏ فما لك في نفسك شيء‏.‏ وما لأهلك منك شيء، وما لأحد فيك شيء‏.‏ فامض لما اصطنعتك له‏:‏

‏{‏اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري‏.‏ اذهبا إلى فرعون إنه طغى‏.‏ فقولا له‏:‏ قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى‏}‏‏.‏‏.‏

اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد‏.‏‏.‏ اذهبا إلى فرعون‏.‏ وقد حفظتك من شره من قبل‏.‏ وأنت طفل وقد قذفت في التابوت، فقذف التابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل، فلم تضرك هذه الخشونة، ولم تؤذك هذه المخاوف‏.‏ فالآن أنت معد مهيأ، ومعك أخوك‏.‏

فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد، في ظروف أسوأ وأعنف‏.‏

اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم؛ ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة‏.‏ ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان‏.‏

اذهبا إليه غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر ويخشى‏.‏ فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار‏.‏

وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون‏.‏ ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه‏.‏ والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم‏.‏ وهو عالم بأنه سيكون‏.‏ فعلمه تعالى بمستقيل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء‏.‏

وإلى هنا كان الخطاب لموسى عليه السلام وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة‏.‏ وهنا يطوي السياق المسافات والأبعاد والأزمان، فإذا هارون مع موسى‏.‏ وإذا هما معاً يكشفان لربهما عن خوفهما من مواجهة فرعون، ومن التسرع في أذاه، ومن طغيانه إذا دعواه‏:‏

‏{‏قالا‏:‏ ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏.‏ قال‏:‏ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏.‏ فأتياه فقولا‏:‏ إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم‏.‏ قد جئناك بآية من ربك‏.‏ والسلام على من اتبع الهدى‏.‏ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏‏.‏

وهارون لم يكن مع موسى قطعاً في موقف المناجاة الطويل الذي تفضل المنعم فيه على عبده، فأطال له فيه النجاء، وبسط له في القول، وأوسع له في السؤال والجواب فردهما معا بقولهما‏:‏ ‏{‏إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏}‏ لم يكن في موقف المناجاة‏.‏ إنما هو السياق القرآني يطوي الزمان والمكان، ويترك فجوات بين مشاهد القصص، تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس‏.‏

ولقد اجتمع موسى وهارون عليهما السلام إذن بعد انصراف موسى من موقف المناجاة بجانب الطور‏.‏ وأوحى الله إلى هارون بمشاركة أخيه في دعوة فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما بمخاوفهما‏:‏ ‏{‏قالا‏:‏ ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى‏}‏‏.‏‏.‏

والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى، والطغيان اشمل من التسرع وأشمل من الأذى‏.‏ وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما‏.‏

هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده، ولا خشية معه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏}‏‏.‏‏.‏

إنني معكما‏.‏‏.‏ إنه القوي الجبار الكبير المتعال‏.‏ إنه الله القاهر فوق عباده‏.‏ إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة‏:‏ كن‏.‏

ولا زيادة‏.‏‏.‏ إنه معهما‏.‏‏.‏ وكان هذا الإجمال يكفي‏.‏ ولكنه يزيدهما طمأنينة، ولمسا بالحس للمعونة‏:‏ ‏{‏أسمع وأرى‏.‏‏.‏‏}‏ فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى‏؟‏ والله معهما يسمع ويرى‏؟‏

ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال‏:‏

‏{‏فأتياه فقولا‏:‏ إنا رسولا ربك‏.‏ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم‏.‏ قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى‏.‏ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏‏.‏‏.‏

إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما‏:‏ ‏{‏إنا رسولا ربك‏}‏ ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلهاً هو ربه‏.‏ وهو رب الناس‏.‏ فليس هو إلهاً خاصاً بموسى وهارون أو ببني إسرائيل، كما كان سائداً في خرافات الوثنية يومذاك ان لكل قوم إلهاً أو آلهة؛ ولكل قبيل إلهاً أو آلهة‏.‏ أو كما كان سائداً في بعض العصور من أن فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة‏.‏

ثم إيضاح لموضوع رسالتهما‏:‏ ‏{‏فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم‏}‏‏.‏‏.‏ ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون‏.‏ لاستنقاذ بني إسرائيل، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ان يسكنوها ‏(‏إلى أن يفسدوا فيها، فيدمرهم تدميراً‏)‏‏.‏

ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة‏:‏ ‏{‏قد جئناك بآية من ربك‏}‏ تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك، في هذه المهمة التي حددناها‏.‏

ثم ترغيب واستمالة‏:‏ ‏{‏والسلام على من اتبع الهدى‏}‏‏:‏ فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى‏.‏

ثم تهديد وتحذير غير مباشرين كي لا يثيرا كبرياءه وطغيانه‏:‏ ‏{‏إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏‏.‏‏.‏ فلعله لا يكون ممن كذب وتولى‏!‏

هكذا ألقى الله الطمأنينة على موسى وهارون‏.‏ وهكذا رسم لهما الطريق‏.‏ ودبر لهما الأمر‏.‏ ليمضيا آمنين عارفين هاديين‏.‏

وهنا يسدل الستار ليرفع‏.‏ فإذا هما أمام الطاغية في حوار وجدال‏.‏

لقد أتيا فرعون والسياق لا يذكر كيف وصلا إليه اتياه وربهما معهما يسمع ويرى‏.‏ فأية قوة وأي سلطان هذا الذي يتكلم به موسى وهارون، كائناً فرعون ما كان؛ ولقد أبلغاه ما أمرهما ربهما بتبليغه‏.‏ والمشهد هنا يبدأ بما دار بينه وبين موسى عليه السلام من حوار‏:‏

‏{‏قال‏:‏ فمن ربكما يا موسى‏!‏ قال‏:‏ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏‏.‏‏.‏

إنه لا يريد أن يعترف بأن رب موسى وهارون هو ربه، كما قالا له‏:‏ ‏{‏إنا رسولا ربك‏}‏ فهو يسأل موجهاً الكلام إلى موسى لما بدا له أنه هو صاحب الدعوى‏:‏ ‏{‏فما ربكما يا موسى‏؟‏‏}‏ من ربكما الذي تتكلمان باسمه وتطلبان اطلاق بني إسرائيل‏؟‏

فأما موسى عليه السلام فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏}‏‏.‏

‏.‏ ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها‏.‏ ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها؛ وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها‏.‏ وثم هنا ليست للتراخي الزمني‏.‏ فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته‏.‏ إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته؛ فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلاً‏.‏‏.‏

وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن موسى عليه السلام يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود‏:‏ هبة الوجود لكل موجود‏.‏‏.‏ وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها‏.‏ وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها‏.‏‏.‏ وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته- في حدود ما يطيق- في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير‏.‏ من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، ومن الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان‏.‏

هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء؛ وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى‏.‏‏.‏ وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات‏!‏

وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها، داخل حدود الناموس العام، في توافق وانتظام‏.‏

وكل كائن بمفرده ودعك من الكون الكبير يقف علم الإنسان وجهده قاصراً محدوداً في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه‏.‏ دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان‏.‏ وهو خلق من خلق الله‏.‏‏.‏ وهبه وجوده، على الهيئة التي وجد بها‏؟‏ للوظيفة التي خلق لها، كأي شيء من هاته الأشياء‏!‏

إلا أنه للإله الواحد‏.‏‏.‏ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏.‏‏.‏

وثنى فرعون بسؤال آخر‏:‏

‏{‏قال‏:‏ فما بال القرون الأولى‏؟‏‏}‏‏.‏

ما شأن القرون التي مضت من الناس‏؟‏ أين ذهبت‏؟‏ ومن كان ربها‏؟‏ وما يكون شأنها وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا‏؟‏

‏{‏قال‏:‏ علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا أحال موسى ذلك الغيب البعيد في الزمان‏.‏ الخافي عن العيان، إلى ربه الذي لا يفوت علمه شيء ولا ينسى شيئاً‏.‏ فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كله‏.‏ في ماضيها وفي مستقبلها‏.‏

والغيب لله والتصرف في شأن البشر لله‏.‏

ثم يستطرد فيعرض على فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان‏.‏ فيختار بعض هذه الآثار المحيطة بفرعون، المشهودة له في مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور والزروع والأنعام‏:‏

‏{‏الذي جعل لكم الأرض مهداً، وسلك لكم فيها سبلاً، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى‏.‏ كلوا وارعوا أنعامكم‏.‏ إن في ذلك لآيات لأولي النهى‏}‏‏.‏‏.‏

والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان‏.‏ مهد كمهد الطفل‏.‏ وما البشر إلا أطفال هذه الأرض‏.‏ يضمهم حضنها ويغذوهم درها‏!‏ وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة‏.‏ جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه‏.‏ فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم‏.‏‏.‏ المعنيان متقاربان متصلان‏.‏

وصورة المهد وصفة التمهيد لا تبدو في بقعة من الأرض كما تبدو في مصر‏.‏ ذلك الوادي الخصيب الأخضر السهل الممهد الذي لا يحوج أهله إلا إلى أيسر الكد في زرعه وجناه‏.‏ وكأنما هو المهد الحاني على الطفل يضمه ويرعاه

والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهداً، شق للبشر فيها طرقاً وأنزل من السماء ماء‏.‏ ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض ومنها نهر النيل القريب من فرعون فيخرج النبات أزواجاً من أجناس كثيرة‏.‏ ومصر أظهر نموذج لإخراج النبات لطعام الإنسان ورعي الحيوان‏.‏

وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجاً كسائر الأحياء‏.‏ وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها‏.‏ والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحياناً يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية‏.‏ وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع‏.‏‏.‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لأولي النهى‏}‏‏.‏‏.‏ وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب ثم لا يطلع فيه على آيات تدل على الخالق المدبر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى‏.‏‏.‏

ويكمل السياق حكاية قول موسى بقول مباشر من الله جل وعلا‏:‏

‏{‏منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى‏.‏ ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‏}‏‏.‏

من هذه الأرض التي جعلناها لكم مهداً وسلكنا لكم فيها سبلاً وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به أزواجاً من نبات شتى، للأكل والمرعى‏.‏‏.‏ من هذه الأرض خلقناكم، وفي هذه الأرض نعيدكم، ومنها نخرجكم بعد موتكم‏.‏

والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض‏.‏ عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالاً‏.‏ ومن زرعها يأكل، ومن مائها يشرب، ومن هوائها يتنفس‏.‏ وهو ابنها وهي له مهد‏.‏

وإليها يعود جثة تطويها الأرض، ورفاتاً يختلط بترابها، وغازاً يختلط بهوائها ومنها يبعث إلى الحياة الأخرى، كما خلق في النشأة الأولى‏.‏

وللتذكير بالأرض هنا مناسبة في مشهد الحوار مع فرعون الطاغية المتكبر، الذي يتسامى إلى مقام الربوبية؛ وهو من هذه الأرض وإليها؛ وهو شيء من الأشياء التي خلقها الله في الأرض وهداها إلى وظيفتها‏.‏‏.‏ ‏{‏ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى‏}‏ أريناه الآيات الكونية التي وجهه إليها موسى عليه السلام فيما حوله، وآيتي العصا واليد يجملهما هنا لأنهما بعض آيات الله، وما في الكون منها أكبر وأبقى‏.‏ لذلك لا يفصل السياق هنا عرض هاتين الآيتين على فرعون، فهذا مفهوم ضمناً، إنما يفصل رده على الآيات كلها فنفهم أنه يشير إليهما‏.‏‏.‏

قال‏:‏ أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى‏؟‏ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت، مكاناً سوى‏.‏ قال‏:‏ موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا لم يمض فرعون في الجدل، لأن حجة موسى عليه السلام فيه واضحة وسلطانه فيه قوي، وهو يستمد حجته من آيات الله في الكون، ومن آياته الخاصة معه‏.‏‏.‏ إنما لجأ إلى اتهام موسى بالسحر الذي يجعل العصا حية تسعى، ويحيل اليد بيضاء من غير سوء‏.‏ وقد كان السحر أقرب خاطر إلى فرعون لأنه منتشر في ذلك الوقت في مصر؛ وهاتان الآيتان أقرب في طبيعتهما إلى المعروف من السحر‏.‏‏.‏ وهو تخييل لا حقيقة، وخداع للبصر والحواس، قد يصل إلى خداع الإحساس، فينشئ فيه آثاراً محسوسة كآثار الحقيقة‏.‏ كما يشاهد من رؤية الإنسان لأشياء لا وجود لها، أو في صورة غير صورتها‏.‏ وما يشاهد من تأثر المسحور أحياناً تأثرات عصبية وجسدية كما لو كان الأثر الواقع عليه حقيقة‏.‏‏.‏ وليس من هذا النوع آيتا موسى‏.‏ إنما هما من صنع القدرة المبدعة المحولة للأشياء حقاً‏.‏ تحويلاً وقتياً أو دائماً‏.‏

‏{‏قال‏:‏ أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى‏؟‏‏}‏‏.‏

ويظهر أن استبعاد بني إسرائيل كان إجراء سياسياً خوفاً من تكاثرهم وغلبتهم‏.‏ وفي سبيل الملك والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير‏.‏ ومن ثم كان فرعون يستأصل بني إسرائيل ويذلهم بقتل المواليد الذكور‏.‏ واستبقاء الإناث؛ وتسخير الكبار في الشاق المهلك من الأعمال‏.‏‏.‏ فلما قال له موسى وهارون‏:‏ أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى‏؟‏‏}‏ لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض‏.‏

وإذا كان موسى يطلب إطلاق بني إسرائيل لهذا الغرض، وكل ما يقدمه هو عمل من أعمال السحر، فما أسهل الرد عليه‏:‏ ‏{‏فلنأتينك بسحر مثله‏}‏‏.‏‏.‏ وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنما تخفي وراءها هدفاً من أهداف هذه الأرض؛ وأنها ليست سوى ستار للملك والحكم‏.‏

‏.‏ ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات، إما خارقة كآيات موسى، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق‏.‏ فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهرياً‏.‏‏.‏ سحر نأتي بسحر مثله‏!‏ كلام نأتي بكلام من نوعه‏!‏ صلاح نتظاهر بالصلاح‏!‏ عمل طيب نرائي بعمل طيب‏!‏ ولا يدركون أن للعقائد رصيداً من الإيمان، ورصيداً من عون الله؛ فهي تغلب بهذا وبذاك، لا بالظواهر والأشكال‏!‏

وهكذا طلب فرعون إلى موسى تحديد موعد للمباراة مع السحرة‏.‏‏.‏ وترك له اختيار ذلك الموعد‏:‏ للتحدي‏:‏ ‏{‏فاجعل بيننا وبينك موعدا‏}‏ وشدد عليه في عدم إخلاف الموعد زيادة في التحدي ‏{‏لا نخلفه نحن ولا أنت‏}‏‏.‏ وأن يكون الموعد في مكان مفتوح مكشوف‏:‏ ‏{‏مكاناً سوى‏}‏ مبالغة في التحدي‏!‏

وقبل موسى عليه السلام تحدي فرعون له؛ واختار الموعد يوم عيد من الأعياد الجامعة، يأخذ فيه الناس في مصر زينتهم، ويتجمعون في الميادين والأمكنة المكشوفة؛ ‏{‏قال‏:‏ موعدكم يوم الزينة‏}‏‏.‏ وطلب أن يجمع الناس ضحى، ليكون المكان مكشوفاً والوقت ضاحياً‏.‏ فقابل التحدي بمثله وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار وأشدها تجمعاً في يوم العيد‏.‏ لا في الصباح الباكر حيث لا يكون الجميع قد غادروا البيوت‏.‏ ولا في الظهيرة فقد يعوقهم الحر، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع أو من وضوح الرؤية‏.‏‏.‏ ‏!‏‏!‏

وانتهى المشهد الأول من مشاهد اللقاء بين الإيمان والطغيان في الميدان‏.‏‏.‏

وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد المباراة‏:‏

‏{‏فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى‏}‏‏.‏‏.‏

ويجمل السياق في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه، وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة، وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه‏.‏‏.‏ يجمله في جملة‏:‏ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى‏.‏ وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متوالية‏:‏ ذهاب فرعون، وجمع كيده، والإتيان به‏.‏

ورأى موسى عليه السلام قبل الدخول في المباراة أن يبذل لهم النصيحة، وأن يحذرهم عاقبة الكذب والافتراء على الله، لعلهم يثوبون إلى الهدى، ويدعون التحدي بالسحر والسحر افتراء‏:‏

‏{‏قال لهم موسى‏:‏ ويلكم‏!‏ لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افترى‏}‏‏.‏

والكلمة الصادقة تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها‏.‏ ويبدو أن هذا الذي كان؛ فقد تأثر بعض السحرة بالكلمة المخلصة، فتلجلج في الأمر؛ وأخذ المصرون على المباراة يجادلونهم همساً خيفة أن يسمعهم موسى‏:‏

‏{‏فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى‏}‏‏.‏‏.‏

وجعل بعضهم يحمس بعضاً، وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون، اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها؛ مما يوجب مواجهتهما يداً واحدة بلا تردد ولا نزاع‏.‏

واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‏.‏ فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً‏.‏ وقد أفلح اليوم من استعلى‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا تنزل الكلمة الصادقة الواحدة الصادرة عن عقيدة، كالقذيفة في معسكر المبطلين وصفوفهم، فتزعزع اعتقادهم في أنفسهم وفي قدرتهم، وفي ما هم عليه من عقيدة وفكرة‏.‏ وتحتاج إلى مثل هذا التحميس والتشجيع‏.‏ وموسى وأخوه رجلان اثنان، والسحرة كثيرون، ووراءهم فرعون وملكه وجنده وجبروته وماله‏.‏‏.‏ ولكن موسى وهارون كان معهما ربهما يسمع ويرى‏.‏‏.‏

ولعل هذا هو الذي يفسر لنا تصرف فرعون الطاغية المتجبر، وموقف السحرة ومن ورائهم فرعون‏.‏ فمن هو موسى ومن هو هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون ويقبل تحديهما؛ ويجمع كيده ثم ياتي؛ ويحشر السحرة ويجمع الناس؛ ويجلس هو والملأ من قومه ليشهدوا المباراة‏؟‏ وكيف قبل فرعون أن يجادله موسى وهارون وهو معهما يسمع ويرى‏.‏‏.‏

وهي كذلك التي جعلت جملة واحدة توقع الارتباك في صفوف السحرة المدربين، فتحوجهم إلى التناجي سراً؛ وإلى تجسيم الخطر، واستثارة الهمم، والدعوة إلى التجمع والترابط والثبات‏.‏

ثم أقدموا‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى‏}‏‏.‏‏.‏

وهي دعوة الميدان إلى النزال‏.‏ يبدو فيها التماسك وإظهار النصفة والتحدي‏.‏

‏{‏قال‏:‏ بل ألقوا‏}‏‏.‏‏.‏

فقبل التحدي، وترك لهم فرصة البدء، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة‏.‏‏.‏ ولكن ماذا‏؟‏ إنه لسحر عظيم فيما يبدو، وحركة مفاجئة ماجت بها الساحة حتى موسى‏:‏

‏{‏فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى‏.‏ فأوجس في نفسه خيفة موسى‏}‏،

والتعبير يشي بعظمة ذلك السحر وضخامته حتى ليوجس في نفسه خيفة موسى، ومعه ربه يسمع ويرى‏.‏ وهو لا يوجس في نفسه خيفة إلا لأمر جلل ينسيه لحظة أنه الأقوى، حتى يذكره ربه بأن معه القوة الكبرى‏:‏

‏{‏قلنا‏:‏ لا تخف‏.‏ إنك أنت الأعلى‏.‏ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏‏.‏‏.‏

لا تخف إنك أنت الأعلى‏.‏ فمعك الحق ومعهم الباطل‏.‏ معك العقيدة ومعهم الحرفة‏.‏ معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة‏.‏ أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقاً بشرياً فانياً مهما يكن طاغية جباراً‏.‏

لا تخف ‏{‏وألق ما في يمينك‏}‏ بهذا التنكير للتضخيم ‏{‏تلقف ما صنعوا‏}‏‏.‏ فهو سحر من تدبير ساحر وعمله‏.‏ والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار، لأنه يتبع تخييلاً ويصنع تخييلاً؛ ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية‏.‏ شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق‏.‏

وقد يبدو باطله ضخماً فخماً، مخيفاً لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر؛ ولكنها تدمغ الباطل في النهاية، فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه، فإذا هو يتوارى‏.‏

وألقى موسى‏.‏‏.‏ ووقعت المفاجأة الكبرى‏.‏ والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها، والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضاً ويدفع بعضهم بعضاً‏.‏ والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه خيفة موسى‏.‏

ويخيل إليه وهو الرسول أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى‏!‏ يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم، لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه؛ ولا يكفي النطق للإفضاء به‏:‏

‏{‏فألقي السحرة سجداً‏.‏ قالوا‏:‏ آمنا برب هارون وموسى‏}‏‏.‏‏.‏

إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله‏.‏ وتصادف «الزر» الصغير فينبعث النور ويشرق الظلام‏.‏ إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان‏.‏

ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف‏؟‏ أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب‏؟‏ وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا، ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم، نسوا أن الله هو مقلب القلوب؛ وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان‏:‏

‏{‏قال‏:‏ آمنتم له قبل أن آذن لكم‏؟‏ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى‏}‏‏.‏

‏{‏آمنتم له قبل أن آذن لكم‏}‏‏.‏‏.‏ قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون وقد لمس الإيمان قلوبهم أن يدفعوه عنها، والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء‏.‏

‏{‏إنه لكبيركم الذي علمكم السحر‏}‏‏.‏‏.‏ فذلك سر الاستسلام في نظره، لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون‏.‏ ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال‏.‏

ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة؛ ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح‏:‏ ‏{‏فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏‏.‏

ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة‏.‏ قوة الوحوش في الغابة‏.‏ القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال، ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب‏:‏ ‏{‏ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى‏}‏ ‏!‏

ولكنه كان قد فات الأوان‏.‏ كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل‏.‏ فإذا هي قوية قويمة‏.‏ وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة‏.‏ وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة‏.‏ وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما بها من عرض زائل‏.‏

ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما أنت قاض‏.‏ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏.‏ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى‏}‏‏.‏

إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنماً يتسابق إليه المتسابقون‏.‏ فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا‏.‏‏.‏‏}‏ فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى‏.‏ ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ ودونك وما تملكه لنا في الأرض‏.‏ ‏{‏إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ فسلطانك مقيد بها، وما لك من سلطان علينا في غيرها‏.‏ وما أقصر الحياة الدنيا، وما أهون الحياة الدنيا‏.‏ وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله، ويأمل في الحياة الخالدة أبداً‏.‏ ‏{‏إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر‏}‏ مما كنت تكلفنا به فلا نملك لك عصياناً؛ فلعل بإيماننا بربنا يغفر لنا خطايانا ‏{‏والله خير وأبقى‏}‏ خير قسمة وجواراً، وأبقى مغنماً وجزاء‏.‏ إن كنت تهددنا بمن هو أشد وأبقى‏.‏‏.‏

وألهم السحرة الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي‏:‏

‏{‏إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا‏.‏ ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى‏.‏ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى‏}‏‏.‏

فإذا كان يتهددهم بمن هو أشد وأبقى‏.‏ فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرماً هي أشد عذاباً وأدوم ‏{‏فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا‏}‏ فلا هو ميت فيستريح، ولا هو حي فيتمتع‏.‏ إنما هو العذاب الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة‏.‏‏.‏ وفي الجانب الآخر الدرجات العلى‏.‏‏.‏ جنات للإقامة ندية بما يجري تحت غرفاتها من أنهار ‏{‏وذلك جزاء من تزكى‏}‏ وتطهر من الآثام‏.‏

وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر، وواجهته بكلمة الإيمان القوية‏.‏ وباستعلاء الإيمان الواثق‏.‏ وبتحذير الإيمان الناصع‏.‏ وبرجاء الإيمان العميق‏.‏

ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية إعلاناً لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض وسلطان الأرض، وعلى الطمع، في المثوبة والخوف من السلطان‏.‏ وما يملك القلب البشري ان يجهر بهذا الإعلان القوي إلا في ظلال الإيمان‏.‏

وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد آخر وحلقة من القصة جديدة‏.‏

إنه مشهد انتصار الحق والإيمان في واقع الحياة المشهود، بعد انتصارهما في عالم الفكرة والعقيدة‏.‏ فلقد مضى السياق بانتصار آية العصا على السحر؛ وانتصار العقيدة في قلوب السحرة على الاحتراف؛ وانتصار الإيمان في قلوبهم على الرغب والرهب، والتهديد والوعيد‏.‏

فالآن ينتصر الحق على الباطل والهدى على الضلال، والإيمان على الطغيان في الواقع المشهود‏.‏ والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول‏.‏ فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير؛ وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن‏.‏‏.‏ إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية‏.‏ فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، والحق شعاراً لا ينبع من الضمير، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان، لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان‏.‏‏.‏ يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب؛ فتصبحا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ويصول بها الطغيان‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا هو الذي كان في موقف موسى عليه السلام من السحر والسحرة‏.‏ وفي موقف السحرة من فرعون وملئه‏.‏ ومن ثم انتصر الحق في الأرض كما يعرضه هذا المشهد في سياق السورة‏:‏

‏{‏ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي، فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً، لا تخاف دركاً ولا تخشى‏.‏ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏‏.‏‏.‏

ولا يذكر السياق هنا ما كان بعد مواجهة الإيمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون‏.‏ ولا كيف تصرف معهم بعدما اعتصموا بإيمانهم مستقبلين التهديد والوعيد بقلب المؤمن المتعلق بربه، المستهين بحياة الأرض وما فيها ومن فيها‏.‏ إنما يعقب بهذا المشهد‏.‏ مشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي‏.‏ وتتجلى رعاية الله لعباده المؤمنين كاملة حاسمة‏.‏‏.‏ ولنفس الغرض لا يطيل هنا في مشهد الخروج والوقوف أمام البحر كما يطيل في سور أخرى بل يبادر بعرض مشهد النصر بلا مقدمات كثيرة‏.‏ لأن مقدماته كانت في الضمائر والقلوب‏.‏

وإن هو إلا الإيحاء لموسى أن يخرج بعباد الله بني إسرائيل ليلاً‏.‏ فضرب لهم طريقاً في البحر يبساً بدون تفصيل ولا تطويل فنعرضه نحن كذلك كما جاء مطمئناً إلى أن عناية الله ترعاهم فلا يخاف أن يدركه فرعون وجنوده، ولا يخشى من البحر الذي اتخذ له طريقاً يابساً فيه‏!‏ ويد القدرة التي أجرت الماء وفق الناموس الذي أرادته قادرة على أن تكشفه بعض الوقت عن طريق يابس فيه‏!‏

‏{‏فأَتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم‏.‏ وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا يجمل السياق كذلك ما غشي فرعون وقومه، ولا يفصله، ليبقى وقعه في النفس شاملاً مهولاً؛ لا يحدده التفصيل، وقاد فرعون قومه إلى الضلال في الحياة كما قادهم إلى الضلال والبحر‏.‏

وكلاهما ضلال يؤدي إلى البوار‏.‏‏.‏

ولا نتعرض نحن لتفصيلات ما حدث في هذا الموضع، كي نتابع السياق في حكمة الإجمال‏.‏ إنما نقف أمام العبرة التي يتركها المشهد ونتسمع لإيقاعه في القلوب‏.‏‏.‏

لقد تولت يد القدرة إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان فلم يتكلف أصحاب الإيمان فيها شيئاً سوى اتباع الوحي والسرى ليلاً‏.‏ ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع‏.‏‏.‏ موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفوعون وجنده يملكون القوة كلها‏.‏ فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلاً‏.‏ هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة‏.‏ ولكن بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها‏.‏ بعد أن استعلن الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه؛ لا يرهب وعيده ولا يرغب في شيء مما في يده‏.‏‏.‏ يقول الطغيان‏:‏ ‏{‏فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ فيقول الإيمان‏:‏ ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏.‏ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏‏.‏‏.‏ عندما بلغت المعركة بين الإيمان والطغيان في عالم القلب إلى هذا الحد تولت يد القدرة راية الحق لترفعها عالية، وتنكس راية الباطل بلا جهد من أهل الإيمان‏.‏

وعبرة أخرى‏.‏‏.‏

إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة‏.‏ فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلاً واستكانة وخوفاً‏.‏ فأما حين استعلن الإيمان، في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ودون تحرج، ودون اتقاء للتعذيب‏.‏ فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة‏.‏ وإعلان النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب‏.‏‏.‏

هذه هي العبرة التي يبرزها السياق بذلك الإجمال، وبتتابع المشهدين بلا عائق من التفصيلات‏.‏ ليستيقنها أصحاب الدعوات، ويعرفوا متى يرتقبون النصر من عند الله وهم مجردون من عدة الأرض‏.‏ والطغاة يملكون المال والجند والسلاح‏.‏

وفي ظلال النصر والنجاة يتوجه الخطاب إلى الناجين بالتذكير والتحذير، كي لا ينسوا ولا يبطروا؛ ولا يتجردوا من السلاح الوحيد الذي كان لهم في المعركة فضمنوا به النصر والنجاح‏:‏

‏{‏يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم؛ وواعدناكم جانب الطور الأيمن، ونزلنا عليكم المن والسلوى‏.‏ كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى‏.‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏‏.‏‏.‏

لقد جازوا منطقة الخطر، وانطلقوا ناجين ناحية الطور‏.‏ وتركوا وراءهم فرعون وجنده غرقى‏:‏ وإنجاؤهم من عدوهم واقع قريب يذكرونه اللحظة فلم يمض عليه كثير‏.‏ ولكنه إعلان التسجيل‏.‏ والتذكير بالنعمة المشهودة ليعرفوها ويشكروها‏.‏

ومواعدتهم جانب الطور الأيمن يشار إليها هنا على أنها أمر وقع؛ وكانت مواعدة لموسى عليه السلام بعد خروجهم من مصر، أن يأتي إلى الطور بعد أربعين ليلة يتهيأ فيها للقاء ربه، ليسمع ما يوحى إليه في الألواح من أمور العقيدة والشريعة، المنظمة لهذا الشعب الذي كتب له دوراً يؤديه في الأرض المقدسة بعد الخروج من مصر‏.‏

وتنزيل المن‏.‏ وهو مادة حلوة تتجمع على أوراق الشجر‏.‏ والسلوى وهو طائر السماني يساق إليهم في الصحراء، قريب المتناول سهل النزول، كان نعمة من الله ومظهراً لعنايته بهم في الصحراء الجرداء‏.‏ وهو يتولاهم حتى في طعامهم اليومي فييسره لهم من أقرب الموارد‏.‏

وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها‏.‏ بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه‏.‏ ويسميه طغياناً وهم قريبو العهد بالطغيان، ذاقوا منه ما ذاقوا، ورأوا من نهايته ما رأوا‏.‏ ‏{‏ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى‏}‏‏.‏‏.‏ ولقد هوى فرعون منذ قليل‏.‏ هوى عن عرشه وهوى في الماء‏.‏‏.‏ والهوىّ إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة‏.‏

هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا؛ كي لا تبطرهم النعمة، ولا يترفوا فيها فيسترخوا‏.‏‏.‏ وإلى جانب التحذير والإنذار يفتح باب التوبة لمن يخطئ ويرجع‏:‏

‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏‏.‏‏.‏

والتوبة ليست كلمة تقال، إنما هي عزيمة في القلب، يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح‏.‏ ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع‏.‏ فإذا وقعت التوبة وصح الإيمان، وصدقة العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق، على هدى من الإيمان، وعلى ضمانة من العمل الصالح‏.‏ فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل‏.‏‏.‏

وإلى هنا ينتهي مشهد النصر والتعقيب عليه‏.‏ فيسدل حتى يرفع على مشهد المناجاة الثانية إلى جانب الطور الأيمن‏.‏‏.‏

لقد واعد الله موسى عليه السلام على الجبل ميعاداً ضربه له ليلقاه بعد أربعين يوماً؛ لتلقي التكاليف‏:‏ تكاليف النصر بعد الهزيمة‏.‏ وللنصر تكاليفه، وللعقيدة تكاليفها، ولا بد من تهيؤ نفسي واستعداد للتلقي‏.‏

وصعد موسى إلى الجبل، وترك قومه في أسفله، وترك عليهم هارون نائباً عنه‏.‏‏.‏

لقد غلب الشوق على موسى إلى مناجاة ربه، والوقوف بين يديه، وقد ذاق حلاوتها من قبل، فهو إليها مشتاق عجول‏.‏ ووقف في حضرة مولاه‏.‏ وهو لا يعلم ما وراءه، ولا ما أحدث القوم بعده؛ حين تركهم في أسفل الجبل‏.‏

وهنا ينبئه ربه بما كان خلفه‏.‏‏.‏ فلنشهد المشهد ولنسمع الحوار‏:‏

‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى‏؟‏ قال‏:‏ هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى‏.‏

قال‏:‏ فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري‏}‏‏.‏

وهكذا فوجئ موسى‏.‏‏.‏ إنه عجلان إلى ربه، بعدما تهيأ واستعد أربعين يوماً، ليلقاه ويتلقى منه التوجيه الذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل الجديدة‏.‏ وقد استخلصهم من الذل والاستعباد، ليصوغ منهم أمة ذات رسالة، وذات تكاليف‏.‏

ولكن الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها، والوفاء بالعهد والثبات عليه؛ وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعداداً للانقياد والتقليد المريح‏.‏‏.‏ فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلاً حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختيار‏.‏ ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم النفسي‏.‏ وكان أول ابتلاء هو ابتلاؤهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ فإنا قد فتنا قومك من بعدك، وأضلهم السامري‏}‏ ولم يكن لدى موسى علم بهذا الابتلاء، حتى لقي ربه، وتلقى الألواح وفي نسختها هدى، وبها الدستور التشريعي لبناء بني إسرائيل بناء يصلح للمهمة التي هم منتدبون لها‏.‏

وينهي السياق موقف المناجاة هنا على عجل ويطويه، ليصور انفعال موسى عليه السلام مما علم من أمر الفتنة، ومسارعته بالعودة، وفي نفسه حزن وغضب، على القوم الذين أنقذهم الله على يديه من الاستعباد والذل في ظل الوثنية؛ ومن عليهم بالرزق الميسر والرعاية الرحيمة في الصحراء؛ وذكرهم منذ قليل بآلائه، وحذرهم الضلال وعواقبه‏.‏ ثم ها هم أولاء يتبعون أول ناعق إلى الوثنية، وإلى عبادة العجل‏!‏

ولم يذكر هنا ما أخبر الله به موسى من تفصيلات الفتنة، استعجالاً في عرض موقف العودة إلى قومه‏.‏ ولكن السياق يشي بهذه التفصيلات‏.‏ فلقد عاد موسى غضبان أسفاً يوبخ قومه ويؤنب أخاه‏.‏ فلا بد أن كان يعلم شناعة الفعلة التي أقدموا عليها‏:‏

‏{‏فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً‏.‏ قال‏:‏ يا قوم‏:‏ ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً‏؟‏ أفطال عليكم العهد‏؟‏ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي؛ قالوا‏:‏ ما أخلفنا موعدك بملكنا، ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها، فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فقالوا‏:‏ هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏؟‏ ولقد قال لهم هارون من قبل‏:‏ يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري‏.‏ قالوا‏:‏ لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى‏!‏‏}‏‏.‏

هذه هي الفتنة يكشف السياق عنها في مواجهة موسى بقومه؛ وقد أخر كشفها عن موقف المناجاة، واحتفظ بتفصيلاتها لتظهر في مشهد التحقيق الذي يقوم به موسى‏.‏

لقد رجع موسى ليجد قومه عاكفين على عجل من الذهب له خوار يقولون‏:‏ هذا إلهكم وإله موسى‏.‏ وقد نسي موسى فذهب يطلب ربه على الجبل وربه هنا حاضر‏!‏

فراح موسى يسألهم في حزن وغضب‏:‏ ‏{‏يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً‏؟‏‏}‏ وقد وعدهم الله بالنصر ودخول الأرض المقدسة في ظل التوحيد؛ ولم يمض على هذا الوعد وإنجاز مقدماته طويل وقت‏.‏ ويؤنبهم في استنكار‏:‏ ‏{‏أفطال عليكم العهد‏؟‏ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم‏؟‏‏}‏ فعملكم هذا عمل من يريد أن يحل عليه غضب من الله كأنما يتعمد ذلك تعمداً، ويقصد إليه قصداً‏!‏‏.‏‏.‏ أفطال عليكم العهد‏؟‏ أم تعمدتم حلول الغضب ‏{‏فأخلفتم موعدي‏}‏ وقد تواعدنا على أن تبقوا على عهدي حتى أعود إليكم، لا تغيرون في عقيدتكم ولا منهجكم بغير أمري‏؟‏

عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل، والتخلخل النفسي والسخف العقلي‏:‏ ‏{‏قالوا‏:‏ ما أخلفنا موعدك بملكنا‏}‏ فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا‏!‏ ‏{‏ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها‏}‏‏.‏‏.‏ وقد حملوا معهم أكداساً من حلي المصريات كانت عارية عند نسائهم فحملنها معهن‏.‏ فهم يشيرون إلى هذه الأحمال‏.‏ ويقولون‏:‏ لقد قذفناها تخلصاً منها لأنها حرام‏.‏ فأخذهم السامري فصاغ منها عجلاً‏.‏ والسامري رجل من «سامراء» كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب‏.‏ وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتاً كصوت الخوار، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه فما كادوا يرون عجلاً من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل، وعكفوا على عجل الذهب؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ راح يبحث عنه على الجبل، وهو هنا معنا‏.‏ وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه‏!‏

وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه، وبتوجيهه وإرشاده‏.‏ اتهامهم له بأنه غير موصول بربه، حتى ليضل الطريق إليه، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه‏!‏

ذلك فضلاً على وضوح الخدعة‏:‏ ‏{‏أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً‏؟‏‏}‏ والمقصود أنه حتى لم يكن عجلاً حياً يسمع قولهم ويستجيب له على عادة العجول البقرية‏!‏ فهو درجة أقل من درجة الحيوانية‏.‏ وهو بطبيعة الحال لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً في أبسط صورة‏.‏ فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا ساقية‏!‏

وغير ذلك كله لقد نصح لهم هارون، وهو نبيهم كذلك، والنائب عن نبيهم المنقذ‏.‏ ونبههم إلى أن هذا ابتلاء‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن‏}‏ ونصحهم باتباعه وطاعته كما تواعدوا مع موسى، وهو عائد إليهم بعد ميعاده مع ربه على الجبل‏.‏

‏.‏ ولكنهم بدلاً من الاستجابة له التووا وتملصوا من نصحه، ومن عهدهم لنبيهم بطاعته، وقالوا‏:‏ ‏{‏لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى‏}‏‏.‏‏.‏

رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً؛ فسمع منهم حجتهم التي تكشف عن مدى ما أصاب نفوسهم من تخلخل، وأصاب تفكيرهم من فساد‏.‏ فالتفت إلى أخيه وهو في فورة الغضب، يأخذ بشعر رأسه وبلحيته في انفعال وثورة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن‏؟‏ أفعصيت أمري‏؟‏‏}‏‏.‏

يؤنبه على تركهم يعبدون العجل، دون أن يبطل عبادته، اتباعاً لأمر موسى عليه السلام بألا يحدث أمراً بعده، ولا يسمح بإحداث أمر‏.‏ ويستنكر عليه عدم تنفيذه، فهل كان ذلك عصياناً لأمره‏؟‏

وقد قرر السياق ما كان من موقف هارون‏.‏ فهو يطلع أخاه عليه؛ محاولاً أن يهدئ من غضبه، باستجاشة عاطفة الرحم في نفسه‏:‏

‏{‏قال‏:‏ يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي‏.‏ إني خشيت أن تقول‏:‏ فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي‏}‏‏.‏

وهكذا نجد هارون أهدأ أعصاباً وأملك لانفعاله من موسى، فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة‏.‏ ويجيء له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية، ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب تقديره؛ وأنه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعاً، بعضها مع العجل، وبعضها مع نصيحة هارون‏.‏ وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم أمراً‏.‏ فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى‏.‏‏.‏

عندئذ يتجه موسى بغضبه وانفعاله إلى السامري صاحب الفتنة من أساسها‏.‏ إنما لم يتوجه إليه منذ البدء، لأن القوم هم المسؤولون ألا يتبعوا كل ناعق، وهارون هو المسؤول أن يحول بينهم وبين اتباعه إذا هموا بذلك وهو قائدهم المؤتمن عليهم‏.‏ فأما السامري فذنبه يجيء متأخراً لأنه لم يفتنهم بالقوة، ولم يضرب على عقولهم، إنما أغواهم فغووا، وكانوا يملكون أن يثبتوا على هدى نبيهم الأول ونصح نبيهم الثاني‏.‏ فالتبعة عليهم أولاً وعلى راعيهم بعد ذلك‏.‏ ثم على صاحب الفتنة والغواية أخيراً‏.‏

اتجه موسى إلى السامري‏!‏

‏{‏قال‏:‏ فما خطبك يا سامري‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏ أي ما شأنك وما قصتك‏.‏ وهذه الصيغة تشير إلى جسامة الأمر، وعظم الفعلة‏.‏

‏{‏قال‏:‏ بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها‏.‏ وكذلك سولت لي نفسي‏}‏‏.‏‏.‏

وتتكاثر الروايات حول قول السامريّ هذا‏.‏ فما هو الذي بصر به‏؟‏ ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها‏؟‏ وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه‏؟‏ وما أثر هذه القبضة فيه‏؟‏

والذي يتردد كثيراً في هذه الروايات أنه رأى جبريل عليه السلام وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض؛ فقبض قبضة من تحت حافر فرسه، فألقاها على عجل الذهب، فكان له هذا الخوار‏.‏